قرّرت الجمهورية الإسلامية الإيرانية فتح صندوق الأسرار الإيراني لتُخرج منه نطاقاً متواضعاً من أجيال الصواريخ الإيرانية من طرازي "قيام" و"ذو الفقار".
ليست الصواريخ الإيرانية على مقرّ القيادة ومراكز التجمّع والإسناد للإرهابيين في دير الزور ذات طبيعة عسكرية واستراتيجية فقط. أرادت طهران من خلالها أن تبعث برسائل سياسية أنها تخوض المعركة في سورية والمنطقة بمصيرية وتطوّر في قواعد الاشتباك، يؤكد الإيرانيون. فالصواريخ العابرة سماء العراق تشكل بداية مسلسل إيراني طويل من تظهير القوة المقبلة التي لن تتأخر طهران عن تقديم المزيد من ظواهرها.
لم يتمّ اختيار دير الزور صدفة للردّ على تنظيم داعش الذي ضرب في مرقد الإمام الخميني ومقرّ البرلمان. كان من الممكن أن يحصل الردّ في الرقة أو الميادين. لكن اختيار هذه المدينة السورية بالذات له مدلولاته للعنوان الآتي للشرق السوري. فمن يسبق إليه ستكون له اليد الطولى في معركة النفط في سورية، ومعركة العشائر، والربط الحدودي، ومستقبل الأكراد.
يشدّد الإيرانيون على أنّ حدث إطلاق الصواريخ، غير مسبوق. لأول مرة منذ ثلاثين عاماً تطلق إيران صواريخ خارج حدودها. صحيح أنّ المبرّر العلني لها هو داعش. لكن الضربة الحقيقية التي بعث بها الردّ هي لمن يؤمن الإيراني أو يعتقد أنهم محرّكو داعش الإقليميون والدوليون وأول هؤلاء بالبريد المضمون السعودية والولايات المتحدة. فالجمهورية الإسلامية لن تكتفي فقط بإجراء الاختبارات الصاروخية بل ستطلقها عند الضرورة لا سيما أنها تمتلك قرار الإطلاق.
تمثل هذه الهجمات الصاروخية عنواناً لمرحلة جديدة بدأها ولي ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، عندما قال "سننقل المعركة إلى داخل الأرض الإيرانية"، ثم استكملت بقصف الولايات المتحدة مطار الشعيرات بصواريخ توماهوك من مدمّرتين للبحرية الأميركية، واستهداف التنف بثلاث غارات أميركية وصولاً إلى إسقاط الطائرة السورية أول أمس على بعد 30 كيلومتراً من مدينة الرقة فوق منطقة الرصافة، وما سبق ذلك سياسياً، من مشروع قرار صدر عن مجلس الشيوخ الأميركي بفرض حظر جديد ضدّ إيران.
يسعى الأميركي لإخراج الإيراني من حالة المبادر إلى متلقي المبادرة، في ظلّ سباق محموم يقوده الأميركي من جهة في ثنائية الموصل – الرقة، ويقوده من جهة أخرى الإيراني والروسي والسوري بالتكافل والتضامن ومعهم حزب الله في ما يُسمى معركة البادية السورية.
يحاول الأميركي كسر نشوة النصر الإيرانية، ووضع طهران في موقع المستهدَف. فهو يريد أن يحفظ حقه في الشراكة في المشهد وتنظيم قواعد اشتباك يتحكم فيها مع الإيرانيين والروس، وبالحدّ الأقصى الوصول إلى لعبة تقاسم نفوذ.
لذلك، فإنّ سباق المعسكرين هو على تركة داعش. مَن يرث هذا التنظيم الإرهابي في إعادة رسم الجغرافيا السياسية لخرائط المنطقة؟! إذ إنّ الإدارة الأميركية تحاول أن ترسم ما تعتقد أنه خطوط التقسيم بالنار ما بين الحلّ السياسي المؤجل. كلّ طرف يسعى إلى توسيع منطقة الأمر الواقع أقصى قدر ممكن، انتظاراً للحظة التفاوض المقبلة، لكنها لحظة قد تتأخر سنوات. لذلك ما يجري بين الطرفين بمثابة ضربات تحت الحزام وكسر للخطوط الحمراء.
الأكيد أنّ المشهدية التي قدّمتها إيران بالغة الأهمية. لجأ الحرس الثوري إلى تصوير إصابة الصواريخ لأهدافها بواسطة طائرات من دون طيار حلقت في فضاء دير الزور بعدما أقلعت من قواعد لها قرب العاصمة دمشق. اختار الحرس الثوري ليلة القدر لتكون عنوان الإطلاق.
إنّ منطق الصدمة والذهول الذي كان وزير الدفاع الأميركي الأسبق دونالد رامسفيلد يستخدمه في العام 2003 في العراق مع توماهوك، استخدمته مجدّداً إيران بصواريخ ليلة القدر بمحاكاة متقدّمة للأسلوب الأميركي ملوّحة بالذراع الإيرانية الطويلة. ذراع لا تستهدف قواعد داعش في دير الزور فقط، إنما مستعدّة كذلك لاستهداف "إسرائيل" أو السعودية أو القواعد الأميركية في المنطقة.
إذا كانت الصواريخ على دير الزور هي البداية، فيمكن ألا نجد مستشارين عسكريين إيرانيين فقط في سورية والعراق، كما تؤكد مصادر معنية بالملف الإيراني، إنما جيوشاً إيرانية في أكثر من ساحة تبعاً لتطوّر الأوضاع. المسافة بين همدان ودير الزور هي المسافة نفسها بين بوشهر والرياض.